Close

December 14, 2016

البيت الدمشقي قارورة العطر

“هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة.

إنني لا أحاول رشوتكم بتشبيه بليغ, و لكن ثقوا أنني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر.. وإنما أظلم دارنا.”

الشاعر الدمشقي نزار قباني

تطور بناء البيت في العالم الإسلامي قبل عصر الضجيج الحالي كانعكاس مباشر لتوجيهات الدين وفحواه الفلسفي والإنساني، وهذا ما جعل طراز البيوت مختلفا كل الاختلاف عن غيره في تلك العصور من حيث البناء المتطور والمستقل وما يقدمه لراحة الإنسان وتهيئته للقيام بمهمات حياته اليومية والروحية على أكمل وجه.

والبيت الدمشقي من أهم الأمثلة على تلك الأنماط العمرانية المتطورة، التي جمعت كل القواعد العمرانية والأخلاقية في مكان واحد هو الأكثر صلاحا وروعة للاستخدام البشري.

العناصر الأساسية التي راعاها بناء البيت الدمشقي:

1-  بساطة المظهر الخارجي الموحد بين الجميع على اختلاف طبقاتهم. فهو بيت مبني برؤية تناسب فكرة التساوي والبساطة الخارجية التي لا تقوم على الارتفاع الشاهق ولا على تمجيد الواجهات لإظهار الغنى والقدرة والتفاخر, بل على العكس كانت واجهات البيوت الدمشقية دائما بسيطة لطيفة وأنيقة بلا تباه ولا تعال ولا تفاخر ولا تنافس. وهو أمر من صميم الفلسفلة الدينية الإسلامية وتحقق بشكل واضح في هذا النمط من العمران.

2- انفصال قلب المنزل عن الشارع الخارجي بباب خارجي منخفض غالبا حيث يضطر الداخل للانحناء في كثير من الأحيان وذلك لتحقيق الخصوصية والعزل البصري لأحداث المنزل الداخلية عن الخارج عند فتح الباب.

يتبع الباب دهليز طويل فاصل يحقق عزلة أصوات أهل البيت عن الخارج، وعزلة أصوات الخارج عن أهل البيت، وهذا ما يحقق الخصوصية والانعزال والهدوء، حيث أصبح البيت الدمشقي يشبه ملجأ جميلا يلجأ إليه الإنسان بعد عمله في الخارج ليهرب من ضجيج الحياة فيرتاح ويعيش بسلام مع أهل بيته ويقوم بفروض عبادته دون تشويش ولا أصوات ودون أيضا أن تمتد المساحة الصوتية لأهل المنزل أنفسهم فتزحف إلى خارج البيوت وتغرق المدينة بانعدام الخصوصية بين منازلها كما هو الحال في أبنية عصرنا الحالي.

3- الفردوس الداخلي: يشبه المنزل الدمشقي مفاجأة فردوسية مذهلة تظهر حال انتهاء الدهليز الفاصل بانفراج هائل وفسحة واسعة تظهر منها السماء كهدية ونعمة تتوسط البيوت الدمشقية.

عادة ما تتوسط الفسحة السماوية فسقية (بحرة ماء أو نافورة) ذات دور مهم للغاية من الناحية الجمالية والتزيينية وتهدئة الأعصاب، وأيضا لها دور كبير في تبريد الجو عن طريق التبخير. وهذا أمر عمراني مهم جدا في تلك البيوت، حيث تم هندسة داخلها لتكون محمية من حر الصيف عن طريق الجدران السميكة العازلة المرتفعة والتي تشكل باجتماعها شبه فجوة مليئة بالأشجار والنباتات تحقق التبريد والترطيب وخلق تيارات هوائية مستمرة.

4- البيئة الطبيعية الغنية: تتم زراعة أحواض الفسحة السماوية بأنواع الأشجار المثمرة والنبات المعرشة والأزهار الدمشقية كالليمون والنارنج والبرتقال والياسمين والورد الجوري وزهرة المجنونة واللبلاب وأنواع أخرى كثيرة. وقد كان من الطبيعي أن تجد في منزل كهذا شجرتين أو ثلاثة تتدلى ثمارها ليستمتع أهل المنزل بمنظرها ويقطفوا ثمرها تباعا.

ليتحقق مفهوم الفردوس الأرضي المكون من سماء وماء وأشجار وأزهار وثمار وخضرة وجو لطيف. يحيط بكل ذلك عدد من الغرف الموزعة بشكل دائري ويكون فيها عادة المطبخ والسلاملك الذي هو عبارة عن غرفة أو قاعة كبيرة صيفية وشتوية مخصصة لاستقبال الضيوف بشكل مريح وسريع.

ثم يأتي الطابق الثاني وفيه غرف النوم وأحيانا غرف معيشة صغيرة، وفوق كل ذلك يأتي السطح لحقق التواصل الدائم مع السماء التي تعانق البيت الدمشقي ولا تهجره كحال البيوت العصرية.

5- الغرف الكثيرة والمساحة الواسعة التي تحقق جمع أفراد الأسرة الكبيرة مع بعضها دون أن يكون في هذا الأمر إزعاجا أو ضيقا ففي البيت فراغات وفضاءات تحقق المساحة الفردية لكل شخص وتمنع الاحتكاك المزعج.

6- التزيين المعماري: يتم تزيين البيت الدمشقي بأصل العناصر المعمارية قبل حتى أن يتم فرشه أو تزيينه بالأثاث الشرقي. حيث يلعب تناوب الألوان في الحجارة المستخدمة دورا كبيرا في التصميم الجميل، وأيضا شكل النوافذ وتوزعها مع الأدراج المسورة بالأسوار المزخرفة والعقود التي تعتلي أقواس الأبواب والتي غالبا ما تحتوي على وحدات زخرفية.

كل هذا وأشياء وتفاصيل أخرى معمارية تجعل من هذا المنزل زينة حقيقية للناظر إليه دون حتى أن يكون قد تم فرشه بعد فكيف إن زينه الفرش الشرقي الملون والمحمل بدفء الشرق وألوانه الوحشية الجريئة وزخرفه الملفت والزجاج الشرقي الملون والأدوات الفخارية والنحاسية المزركشة.

محمد الحموي